Monday, December 27, 2010

و تحرك القطار

رأيتهما ..و كأني لم  أرهما من قبل ،هي.. تشع بهجة و اشراقا
و مرح و حيوية ، و هو.. يتوهج قوة و نضجا و يبزغ من عينيه بريق الأمل و الاصرار ..رأيتهما معا..يداهم متشابكتان..  و كأن علاقتهما  كان لها مفعول السحر في شخصية كل واحد منهما..
و كأن روحيهما قد بعثتا من جديد و امتزجتا معا في سيمفونية بديعة ما كنا نسمعها من كل منهما ان عزف وحيدا .
لم أكن أتخيل أبدا أن هذا الشاب الذي كان يبدو بالأمس غير مكترث بالحياة،قانطا عليها سيصبح ذات يوم هذا الرجل الذي تملأ الابتسامة وجهه في زهو و انتصار ، و أن هذه الشابة الخجولة قليلة الكلام ..غير الخبيرة بالحياة.. ستتحول الى هذه الشخصية النشطة النابضة .انه الحب الذي  وحد قلبيهما و أصبح الوقود الذي أشعل فيهما وهج الحياة.
  بينما سارا ملتصقين كأنما لا يفهمان غير بعضهما و كأن العالم بكل  ضجيجه لا يؤثر فيهما و الناس لا تعرفهما ..  عرفتهما أنا ..الذي طالما نظرت اليهما باستعلاء ،كنت أراها صغيرة و ساذجة وأراه مستهتر و عابث ،و لكني الآن أتحدى أن يفشل أحد منهما طالما أنهما معا ..لقد وجد كل منهما من يأخذ بيديه و يقيمه حين يسقط  و يربت على كتفيه ليشجعه حين ييأس .
لقد كانا في محطة القطار يستعدان للرحيل ..الى أين؟ لا أعلم ..فهم جزء من رحلة هذه الحياة ..رحلتهما و رحلتي ..
أما أنا فقد عشت حياتي وحيدا.. حبيس  ذاتي.. جامد الشعور، أفكر بعقل ميت وأتبنى نظريات سطحية ضحلة.. بلا روح .. استطاعا هما  أن يؤثرا في .. لقد علماني  أن في  الآخر نشعر و نعيش و نتقدم وننمو وفي الذات ننحط  و ندفن .
كانا ينتظران القطار .. حتى حضر و ركباه.. ثم تحرك القطار.. ووقفت بالمحطة وحيدا .

غدا تزورني الشمس

عندما أتم عامه السادس .. تلقفته يد فظة ليعمل في ورشة تطوع الزجاج :تقطعه وتصنفره ،فبعد وفاة والده لم يكن للأسرة معيل أخر غيره و اضطر أن يعمل هو ليوفر طعاما له و لأمه و أخيه الرضيع.يعمل منذ الصباح الباكر قبل شروق الشمس و يرجع عند غروبها .
كانوا يسكنون في بدروم عمارة ..لا تصله الشمس .. به فتحات صغيرة للتهوية ترتفع قليلا عن سطح الرصيف المجاور .
كان حلمه صغيرا مثله .. فرغم صعوبة الحياة و قسوتها لا زالت أفكاره بسيطة و أحلامه طفولية ..و كأنه رفض في عقله الباطن أن يعطي الحياة فرصة تشكيله و سلب برائته فينسى الحلم و يكره الواقع ..
كان يتمنى أن تزور الشمس بيته ..أي البدروم المظلم الذى لم ير فيه نور الشمس منذ أن ولد..
 و يتسائل "متى تزورنا الشمس يا أمي ؟ اتمنى أن تفعل ذلك غدا "وينام في سكون بعد عناء يوم طويل .
نام الطفل الصغير و في نومه رأي الشمس تبتسم له في صفاء و تداعبه بضوئها فيحول عينيه عنها ثم يرجع و ينظر إليها بفرح ،يشيح بيديه و يغمي عينيه ثم يعود لينظر من جديد سعيدا.. فتبتسم له ثانية .
صحى من نومه و قد قرر أنه "غدا سوف تزورني الشمس !"
 في اليوم التالي  أسرع إلى عمله بورشه الزجاج و إختار قطعة زجاج مربعة ملساء و قصها..
 و هذبها لتصبح مراة و صنع لها إطارا و رجع مهرولا و ثبت المراة في عامود إنارة مطفأ أمام العمارة لتنظر تجاه فتحات التهوية .. و نطق فرحأ "تفضلي أيتها الشمس ".عكست المراة نور شمس الصباح و راح البدروم كله يشع ضياءا و أضفت الشمس ظلالا و ألوانا على الحوائط المتربة ..و كشف الضوء الكثير و الكثير مما خفي من مكونات البدروم ..حزن على ما وجده في المكان من قذارة و لكنه عزى نفسه قائلا"الأن و قد دخلت الشمس بيتنا لا يحق للظلام أن يبقى . 

سيداتي آنساتي سادتي

كان المسرح يضج بالحاضرين الذين جاءوا من كل مكان بالبلدة ليستمتعوا بالعرض الرائع للساحر الشاب الذي كانت فقرته تبهر الكبير و الصغير.
أغلب الحاضرين حضروا فقرة الساحراكثر من مرة و يعرفون مقدما تتابع ألعابه و فكرة كل حيله ومع ذلك لم يملوا من أن يصفقوا بإعجاب شديد عند عرض فقراته .كان كل أب يريد أن يروح عن أسرته يدعوهم للذهاب للمسرح حيث العرض اليومي للساحر ..وبصراحة كان دائما ما يكون هذا الاختيار موفقا إذ يضفي بهجة كبيرة على الأسرة لأسبوع كامل .
في تلك الليلة ..تقدم مقدم الحفل ليعلن قرب بدء فقرة الساحر و ابتدأ يمدح و يثني عليه و على قدراته الخارقة في خفة اليد و الخداع ."سيداتي آنساتي سادتي و الآن الساحر المعجزة الذي أمتع الجماهير العريضة بفقراته الجذابة .."
انفجرت القاعة بالتصفيق مع دخول "الساحر"الذي بدأ في عرض فقراته الفقرة تلو الأخرى وسط إعجاب المشاهدين فيما عدا مشاهد واحد كان يجلس في ركن في الصف الأمامي و ينظر بتمعن ناحية الساحر ترى في عينيه نظرات الامتعاض و يدير رأسه يمينا و يسارا كلما سمع تصفيق الناس بعد كل فقرة ثم يغمض عينيه غير راغب في النظر .و الآن سيداتي آنساتي سادتي الفقرة الرهيبة ،سيشطر الساحر الفتاة الجميلة إلى نصفين بألواح معدنية حادة .إمتلأت عيون المشاهدين رعبا على الرغم أن أغلبهم قد شاهد تلك الفقرة من قبل مرات و مرات و كلهم يعرفون أنها خدعة بصرية من خدع الساحر وضع الساحر الفتاة في الصندوق الأسود و غرز الحديد في منتصف الصندوق فشطره نصفين و باعدهم عن بعضهما فأصبحت قدماها في ناحية و رٍأسها في ناحية و هي تبتسم للمشاهدين .وهنا ارتفع صوت الرجل ذاته- الجالس في ركن الصف الأمامي-"هذا تهريج واستخفاف بعقل الناس ،كلنا نعرف أن هذه خدعة بصرية و مع ذلك فأنت لا تزال تستخدم هذه الحيل في تضليل الناس".بهت الناس حين سمعوا هذا الرجل وحملق الساحر فيه و انتقل ببصره شاخصا في الجماهير المترقبة و قد بدأ يشحب و عرقه يتصبب فلم يحدث له هذا الموقف من قبل في أية ليلة قدمها ..و لكن سرعان ما انطلقت الجماهير تهاجم الرجل الثائر "لقد أفسدت العرض و أفسدت متعتنا " و تقدم بعض الشباب المتحمس يمطرون الرجل بسيل من الضربات على رأسه و ظهره و انهالت عليه العصي و الكراسي و سمع ما لا يطيق من الشتائم حتى هرب يعدو مسرعا لينقذ نفسه .
عاد الهدوء للقاعة و دخل مقدم الحفل يقول سيداتي آنساتي سادتي نعتذر عما حدث و نواصل تقديم العرض الفني .و تهيأت الناس من جديد لاستكمال الفقرات و ابتدأوا يبتسمون فهم يعرفون مسبقا أن الفقرة القادمة ستكون كوميدية .   

ببساطة

صحوت متأخراً.. رن المنبه كثيرا..وكنت أكتم رنينه و في آخرمرة سقط على الأرض و تهشم و أفقت على صوت ارتطامه بالأرض..قمت و لبست ملابسي مسرعا ..انفرط زر القميص ولم أجده ..تعقدت رابطة العنق حول عنقي و لم أعبأ بفكها فقد كنت أود الخروج مسرعا من البيت .نادتني الجارة أثناء خروجي لألتقط  لها مشبك الغسيل الذي سقط على الأرض و بينما أهم لأقذفه لها تناثر الماء من جار آخر كان يروي زهوره فأصاب بدلتي بالبلل .ركبت أول "توك توك" الذي ما إن تحرك حتى  اصطدم بزميله و تبادلا الصياح و السباب .تركته راكضا لألحق بالمترو و سرعان ما دخلت حتى أغلق الباب على قماش بدلتي الثمين و تجمع الناس ليفتحوا الباب فلم يستطيعوا ..و انتظرت حتى المحطة التالية .اصطدمت بطفل يحوم بالمترو فبكى و تأثرت أمه فتشاجرت معي ..سمعها عجوز مسن فلعن جيل الشباب كله .دخل متسول القطار وخرج و إذ بي لا أجد محفظتي و بها نقودي و بطاقة الهوية و رقمي الخاص لدخولي من باب  العمل .ركبت "تاكسي "تعطل في الطريق ..أقلتني الحافلة إلي باب العمل و خرجت منها بشعر أشعث و طبعا لم يعرفني أمن الباب و طلبوا رقمي السري أو بطاقة هويتي ..لم يصدقوا أنني سرقت ..ضمنني زميل لي ..طلبني المدير و سمعت تعييره على تأخري ..خصم لي يومان .. و قال لي خذ الأمر ببساطة  و عد من حيث أتيت فاليوم غير محسوب لك .رجعت متعبا أجر قدماي ..ارتميت على السرير ..ورحت في نوم عميق و في اليوم التالي صحوت متأخرا..رن المنبه كثيرا........

المترو

كالعادة .. ركب قطار مترو الأنفاق متوجها إلى مكان ما ..سيناريو تكرر كثيرا .. يقف مواجها للباب منتظرا محطة النزول .. و سرعان ما تراوده الأفكار ذاتها بمجرد أن تتحرك عجلات القطار ..ثم ينزل القطار تحت الأرض .. فتظلم الدنيا أمامه .. وبسرعة يضاء نور المترو حتى يرى الناس بعضهم بوضوح .. أما هو فلا يرى أمامه سوى صورته المنعكسة بفعل الضوء على زجاج الباب ..وتراه يبدأ في التفكير و كأنه يكلم نفسه الواقفة أمامه .. ما أسرع قطار العمر! .. بعد كل هذه السنين لا يمكن أن يكون طريق حياتي- الذي  اخترته- خطأ .. فلقد اخترت المثاليات .. وهل في هذا خطأ؟.. و لكن ما لي أقارن نفسي بغيري فأجدهم في وضع أفضل ؟.. لا ..
لا أظن أننا من نصنع حياتنا بأيدينا .. و المحظوظ هو من تكون حياته مباركة من قبل الله .. وماذا عن القرارات الخاطئة والقرارات الصواب التي تأخرت وتلك التي لم تتخذ؟ما هو مقياس المكسب و الخسارة و من الذي يسأل عنهما ؟ أعتقد أن كل شيء بميزان و المعادلة متساوية بطرفيها .
لقد حاول كثيرا أن يفعل كل شيء بنظام يتماشى مع طبيعته الهادئة و لكن الحياة أصلا مضطربة .. و سريعة .. هل أخطأ حينما حاول أن يبطئها .. و يشد (الفرملة) لتهدأ و تمشي مع إيقاعه .. و لماذا يشعر الآن أن القطار يسير بلا هدف ؟...... و لماذا لا يقدر أن يدير عجلة القيادة بنفسه ؛ فيتحكم في سرعة القطار .. انه يشعر أنه في هذا القطار منذ زمن بعيد ..    
و أنه قد كبر كثيرا رغم صغر سنه .. لقد كان طموحه هو الكهرباء التي تدفع قطار حياته  للأمام ..و تعطيه هو القوة
و الشباب.. و أين هو من هذا الطموح الآن .
و مثل كل مرة يفيق حين تختفي صورته التي انطبعت على خلفية الظلام .. فقد وصل المحطة بأضوائها وضجيجها .. أصبح لا يرى صورة نفسه .. و من جديد يجد نفسه تائها في شبه الحياة . 

الكانيولا

دخلت غرفتها .. فوجدتها هي.. بجسدها الواهن أكثر من ذي قبل .. و قد ازداد شحوبها و ضعفها .. و لكنها لها ذات النظرة الثاقبة الحادة .. نحو الحياة. طلبت منها أن تمد يدها لي و بكل استسلام فعلت هي ذلك . كان علي أنا الطبيب أن أبحث عن وريد مناسب لحجم (كانيولا ) لأدخل لها المحاليل اللازمة للغذاء  و العلاج .بحثت كثيرا في اليد الرقيقة التى ذابت من المرض  .. بحثت و ضغطت الشريط الضاغط كثيرا ثم أعود فأعتذر بينما لم تتأوه هي .أخيرا وجدنا وريدا ..حاولت أن أدخل (الكانيولا) و أنا أتألم ..و مريضتى صابرة .
لم يكن من السهل علي أن أكرر المحاولة .. و أخيرا أشفقت الكانيولا و دخلت .. و سمحت أيضا بمرور المحاليل بها .
بالرغم من صغر سن مريضتى إلا أنها كانت تقاوم السرطان بشدة و هدها العلاج بعد أن هدها المرض.هزلت و خف وزنها بشدة و لكن عزيمتها بقيت قوية .قالت لي و انا متوجس بينما أحاول تركيب (كانيولا) أخرى بعد مرور ثلاثة أيام "أدخلها في الذراع الأخر فلا زالت به أوردة جيدة". سرحت بفكري ترى أين أنا من هذه البطلة التي تقاوم مرضا قاسيا بينما ايأس أنا بسرعة و أعيش أحيانا بلا رجاء و بلا شكر .وسط هذه الأفكار لا أتذكر كيف استطعت تركيب (كانيولا ) جديدة و تركت غرفتها بسرعة .ٍ

البعبع

في صبيحة كل  يوم من أيام امتحانات الثانوية العامة ..يصحو واهنا .. يقف أمام المرآة ليغسل وجهه .. فيسرح قليلا ؛ بينما يبلل شعره بالماء .. ينظر إلى عينيه- و قد أحاطت بهما الهالات السوداء- و إلى وجهه الشاحب.. يتحسس ضرسه الذي يؤلمه من يوم لآخر ؛فيسد فمه بالمسكنات كي  لا يتأوه..
و يسأل نفسه : من سيعوض لي أحلى أيام الحياة و قد قضيتها بين الكتب و ساعات الدرس ؟ومتى سأجني حصيلة تعبي ؟
انه يواصل ليله بنهاره و هو على هذا الحال لشهور مضت ؛
 يخرج للدرس ثم يأتي ليذاكر حتى الساعات المتأخرة من الليل .. و ينام قلقا ليصحو مبكرا فيدير الساقية من جديد .
لقد ضحى به القائمون على العملية التعليمية في بلده قربانا على مذبح فشلهم ،بعد أن تفتقت أذهانهم بكل ما هو ضار له
 و لأقرانه و كل ما من شأنه أن يقترب بهم من حافة الهاوية
 و الفشل ،وكأنهم عرائس ماريونيت يتم تحريكهم  من عالم آخر ، و لولا العناية الإلهية و أسرته الطيبة لما تحمل كل ذلك، ،وكيف لا؟ وهو يسمع من حين لآخر عن زميل في مثل سنه انتحر لأنه فشل في امتحان ما و زميل آخر أصبح من مرتادي  المصحات النفسية لأنه عجز أن يحصل على المجموع الذي يسعد به أباه و أمه و يحقق به أمنيات نفسه البسيطة في الالتحاق بكلية الفنون الجميلة . و كثيرون غيره في مثل سنه فقدوا الهدف و يعيشون كما لقوم عادة ..لقد عجزت نفوسهم الضعيفة الغضة و عقولهم البكر أن تتحمل كل هذا الضغط  في هذه السن المبكرة .
فكر الشاب في كل هذا و هو يلبس ملابسه و حذائه و يجهز أدواته بين دعوات أبيه و أمه و أخته وهم يودعونه و يحثونه على الهدوء و التركيز في الامتحان بينما هو مستمر في أفكاره..هل يا ترى يستطيع أن يفعلها فيستريح قلب والديه ؟
انه يفكر في أصدقائه الذين ليس لهم أحد يهون عليهم القلق

 و الخوف من هذا (البعبع). يدخل غرفته  ليصلي ثم يركب السيارة مع أخيه الأكبر (ليقوده) إلى لجنة الامتحان ..خطواته بطيئة ..عينه تنظر إلى لا شيء..يضحك ظاهريا .. يترك كتبه عندما يقابل زملاءه أمام باب المدرسة .. إنهم يذيبون  همومهم  في بعضهم .. يتكلمون و يضحكون كي يتناسوا حالهم  و يطردوا الوهم و الخوف .."سيأتي الامتحان سهلا بإذن الله" هكذا قالوا لأنفسهم ..ثم يدق جرس الدخول للجنة الامتحان ..فيودع هو أخيه بنظرات قلقة عله يجد في عينيه سلاما ثم يحيد بنظره و جسمه عنه و يمشي متجها إلى مصيره . 

الأيدي المرتعشة

يسلم علي بيده اليسرى .. فيده اليمنى إن تحركت ترتعش ..يزك بقدمه .. يسير حثيثا تحك قدماه الأرض و كأنه ينزلق على جليد.. يميل في سيره على الناحية اليمنى و لا يستطيع أن يستند على شىء، فيده اليمنى ضعيفة ،وكثيرا ما يسقط على هذه الناحية ،و يده لا تسعفه على الاحتفاظ بتوازنه ..كلامه بطىء متقطع ..حروفه متداخلة ..و نبرته منخفضة لا تتغير ..إلا إذا انفعل ..وجهه جامد نادرا ما تلمح شبه ابتسامة به .
سلب منه مرض الشلل الرعاش أحلى سنوات شبابه و حوله من طبيب ناجح إلى ركام .. يجلس في غرفته يقرأ..فقد طموحه و أماله .. يسكن مع أمه المسنة في دار المسنين فيؤنسان بعضهما البعض، .ملابسه رثة مهلهلة ..بلا ذوق ..صيفها كشتاءها ..تفكيره غير متجدد و أيامه متشابهة ..يخرج ليروح عن نفسه ويترك والدته وحدها – مؤقتا – بالدار.
أخبرني أنه في الأيام العشر الأخيرة سقط مرتين في الطريق ..اختل توازنه و خارت قواه فأصبح يرهب الخروج .اقترح عليه طبيبه تثبيت جهاز لتنظيم عمل الخلايا العصبية في الدماغ ..تعلق بالأمل لكنه لم يترك مخاوفه ..فالنتائج دائما غير مضمونة .
لقد أراد القدر أن تلازمه هذه الرعشة التي في يده سنين طويلة من حياته ..يده لم تعد ثابتة و كذلك قراراته و انفعالاته و طموحاته .. حتى أمانيه .أصبح يرهب كل شيء ولا يثق بشىء..
فالحياة عنده غير واضحة المعالم و المستقبل مجهول دائما ..يرى له صورة مهزوزة ترتعش أيضا .. مثل يده.  

كرسي متحرك

من ردهة غرفته في دار المسنين الذي يطل على مدرسة ،يرى (جدو وحيد ) -  كما يلقبونه في الدار-  الأولاد الصغار يلعبون ..يداعب أحدهما الأخر و تتعالى ضحكاتهم فيضحك معهم .
منذ سنوات تبدو له قليلة كان مثلهم يلعب و يضحك و ضحكه يملأ الجو ..و ها هم يرمون الكرة و إذ بها تعلو ثم تستقر في ردهته ويمسكها  براحة يديه .. فرح بها و تذكر أيام شبابه عندما كان قائد فريقه في كرة اليد .. و كان أفراد الفريق يعطونه الكرة فيسددها في المرمى مباشرة ..تحسس الكرة بيده و نظر لنفسه ..الآن هو عاجز، يتحرك على كرسي متحرك.. يلهث، خلف قطار الزمن .
"الكرة يا جدو "هكذا ينادي الاولاد منتظرين ان يدفع الكرة لهم ليستكملوا اللعب فيتخيل نفسه في الملعب فيقذفها بقوة كادت تخلع مفاصله.. و لكنه سعيد .. فلا زال فيه شيء من الحياة ..يكتشفه بعد كل هذه السنين.. متأخرا .. و قد اقتربت محطة نزوله..
الممرضة تأتي لتعطيه الدواء ..بها جمال هاديء و ابتسامة حانية و فيها شباب افتقده منذ فترة طويلة ..تقول له بود "عامل ايه يا جدو "فيبتسم بسخرية .
يستلقي على الكرسي .. يحلم ثانية ..يتذكر شبابه ،حبه ،عواطفه
 و أحاسيسه القديمة التي غطاها تراب الزمن .
إنه يوم غريب جديد عليه أثار فيه مشاعر الشباب و حماسه .
أصبح متقلقلا علي الكرسي ،يقبض بشدة على اليدين ..يدفعه يمينا و يسارا كأنه في مباراة ..يهزه بقوة ..يحاول أن ينهض فلا يستطيع ..هل التصق بالكرسي؟! أصبح يروح و يجيء بروح مضطربة رافضة للواقع ،صوت الأطفال يعلو و صور الماضي تهيج مشاعره .
الكرة تعلو و تقترب منه ثانية ،"لا زال في القوة،سأمسكها و ليكن ما يكون " .."الكرة ..امسكها يا جدو " فينهض ليمسكها  فيسقط على الأرض صامتا و يندفع الكرسي بعيدا ضاربا عرض الحائط.     

وفاة فتى المطعم

لا تكاد تراه كثيرا في مطعم المستشفى ،فعادة ما تكون مشغولا بحديثك مع الأخرين ،فتتعالى ضحكاتكم أو همساتكم .. و عادة ما يأتى  هو بعدما يرحل الضيوف..فيتركون منضدتهم و يمسحها هو. كان نحيلا ..قصيرا ..يغريك أن تسخر من شكله..أو تشفق عليه .
أنظر لعينيه ترى فيهما حزنا دفينا..لفتاته ..مخارج ألفاظه الغير واضحة .تراه دائما والمنشفة في يده المبللة بالمياة،أو يمسك المقشة و الممسحة لينظف بهما الأرضية  ..ملابسه مهلهلة رثة ..شعره أشعث .لقد أمعنت النظر فيه ..تفرست في شكله ..تأملت حاله ..قليلا ما يشكره أحد ،يرحل رواد المطعم ثم يعمل هو أو ينهي هو عمله قبل أن يحضروا هم .. ترى بما يشعر هو عندما يسمع تعليقات الآخرين على شكله و طوله .
لقد تحدثت معه عندما كان مريضا ،إن له قلبا و عقلا وحسا مثل كل إنسان ،يتألم للمرض ..فهو لا ينقصه الألم الجسدى فيكفيه الألم النفسى الذى اختار أن يتحمله بصمت ..تكفيه أحلامه المستحيلة ..قهر الناس و ظلم الحياة .جاءنى كي أكتب له دواءا،فقد وجد في نظرتى حنو و شفقة عليه ..رجوته أن يهتم بنفسه و صحته ..تعجب أن يجد من يعبأ به .زرته عندما ارتفعت حرارته و قل وعيه و كأنه اختار أن ينسى واقعه و يعيش في عالمه الذي طالما تمناه ..عالم الراحة الأبدية من معاناة الحياة  ،سألتني أمه أتراه يعيش؟ ..مسكت يده شعرت بها ترتعش ..لا زالت مبتلة لكن اليوم من كثرة العرق .
مات فتى المطعم ..أتراها حياة تلك التى عاشها ؟الآن تحرر منها  . ..لكن رواد المطعم لم يلاحظوا أنه غير موجود ..فهم يقومون بعد أن ينتهوا من طعامهم و يتركون المنضدة لينظفها بعدهم فتى ..أي فتى .